خواطرٌ مع "الإسراء والمعراج".بقلم الأستاذ ناصر حمدادوش



بقلم الأستاذ ناصر حمدادوش

خواطرٌ مع "الإسراء والمعراج".
إنّ حيوية النّص القرآني هو الذي يفيض بالتدفّق والعطاء المعرفي للوقوف على حادثةٍ تبقى معانيها متجدّدة في نفوسنا بتجدّد الإيمان بآيات الله تعالى في القرآن الكريم، ففي ظلال الذّكرى النّورانية للإسراء والمعراج وأبعادها الحضارية، نقف هذه السنة مع القيمة المعنوية لها، ومع جانبٍ من جوانب الأسرار الإلهية في العلاقة المقدّسة بين هذه الومضة القدسية " الإسراء" وبين "...الأرض التي باركنا فيها للعالمين"(الأنبياء:71)

وهي تمرّ علينا في سياقاتٍ مأسوية وفي ظروفٍ مشابهةٍ لما عاناه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد فَقَد سندا داخليا (زوجته خديجة رضي الله عنها)، وسندا خارجيا (عمّه أبو طالب)، وبعد أن قَسَت عليه "قريش" وخذلته "الطائف" ولم يجد ما يقول إلا: (اللّهم إليك أشكو ضعف قوّتي وقلّة حيلتي، وهواني على النّاس، يا أرحم الرّاحمين، أنت ربُّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى مَن تكِلُني، إلى بعيدٍ يتجهّمني أم إلى عدوٍّ ملّكته أمري، إنْ لم يكن بك عليَّ غضبٌ فلا أبالي..)، فخفَقَت له الآلاء والنِّعم وتحرّكت معاني التأييد والتوفيق الإلهي، فكان من إكرام الله تعالى له: انفتاح الكون له بآفاقه الرّحبة غير المتوقّعة، ظهرت معها اللّمسة الإلهية التي تعمل في الخفاء، وسلك معها مقاماتٍ لا تخطر على قلب بشر.
1_ انفتاحه على الشباب: فأسلم له شابٌ يرْقُب فيه توريثا قياديا للقيم (والشباب هم حملة مشاريع النّهضة والتغيير عبر التاريخ، فكان معدّل عُمْر الصحابة جميعا: 23 سنة)، وهو: يعمل في بستانٍ لـ:"عتبة بن ربيعة" وجاءه بقطفٍ من العنب هديةً رمزيةً لتطييب الخواطر واستشعار العناية الإلهية.
2_ انفتاحه على عالمٍ غيبي في الأرض وهم "الجن": ففي طريق عودته "صلى الله عليه وسلّم" استمع له نفرٌ من الجن فأسلموا وقال تعالى عنهم:" وإذ صرفنا إليك نفراً من الجنّ يستمعون القرآن، فلما سمعوه قالوا أنصتوا، فلما قُضي ولّوا إلى قومهم منذرين."(الأحقاف:29).
3_ انفتاحه على الكون: في رحلةٍ أرضية (الإسراء) ورحلة علوية غيبية (المعراج)، فكانت هذه الرّحلة الرّبانية إلى العالم العلوي المقدّس.
فإذا خذله الشيوخ نصره الشباب، وإذا كفر به الإنس آمنت معه الجن، وإذا تنكّر له أهل الأرض استقبله أهل السماء، وإذا قسى عليه الخلق احتضنه حنان الخالق، وبقدر ما حملت هذه "الرّحلة" من المواساة والتأنيس والتثيب له "صلى الله عليه وسلّم" بقدر ما حملت اختبارا قاسيا للمؤمنين وغيرهم في الصّدق الإيماني والتسليم القلبي لحدوث مثل هذه المعجزة والتي تتجاوز حدود الخيال العقلي.


وكثيرا ما يتّجه الحديث عن هذه "المعجزة" إلى الرّحلة السّماوية الغيبية، إلى السّماوات العلى، وكان بالإمكان أن تكون رحلةً مختصرةً من المسجد الحرام إلى سدرة المنتهى، "عندها جنّة المأوى"(النّجم:15).


ولكنْ لماذا لا نعيش وقفةً واقعيةً في عالم الشهادة، مع الرّحلة الأرضية،".. إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا."(الإسراء:01)؟ وهي رحلةٌ مقصودة، بحثا عن أرضٍ تحتضن هذه الدعوة، وعن حاضنةٍ تعتنق هذا الدّين، وعن تلازمٍ بين الوطنية والإسلام، ومنها إلى العالمية فيصلّي بالأنبياء جميعا إيذانا بانتقال القيادة الدينية للبشرية من بني إسرائيل إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلّم.

سورة "الإسراء" المكية، هي التي منحت مساحةً تعبيريةً لهذه "المعجزة"، وتحدّثت برمزيةٍ قوية، وبدلالاتٍ عميقةٍ وذاتِ أبعادٍ مستقبلية عن "المسجد الأقصى"، قبل أن تُفتح فلسطين في عهد عمر بن الحطاب رضي الله عليه بـ: 28 سنة،


وهي رسالةٌ للذين يرتبطون بالعقائد والأفكار (وليس بالأشخاص) أن واجب الفتح والتحرير يبقى ممتدا مع الأجيال، وأنّ هذه الأرض تحمل بُعدا إسلاميا يناجي الضمير الإسلامي والإنساني للوفاء لها والعمل من أجلها، على امتداد الزّمان والمكان.

هي العلاقة المقدسية التي تنمّي قوة الاعتقاد في هذه الأرض، عندما انفتحت لهذه الدعوة آفاقٌ امتدت في جذور الزّمن، لترسم لوحةً مصطبغةً بالبعد العقائدي العميق، الذي يتجاوز حدود "التاريخ" و"الجغرافيا"، وأنها وقْفٌ إسلامي ملائكي لا يُعقل ولا يُقبل أن تُدنّس برجس اليهود، يقول ابن عباس رضي الله عنه:"البيت المقدّس بَنَته الأنبياء، وسكنه الأنبياء، وما فيه من شِبرٍ إلاّ وقد صلّى فيه نبيٌّ أو أقام فيه مَلَك.".

هي ملتقى أطماع العالم، وهي أرض المعارك الكبرى، وهي التي تُختبر فيها الإرادات الدولية كما قال تعالى عن الثنائية القطبية في ذلك الزمان (الفرس والروم):"ألم، غُلبت الرّوم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون.."()، ومع أنّ الآياتِ مكية والصحابة في حالة استضعاف لا يأْمن أحدُهم على نفسه وهم في مرحلة الجماعة قبل المجتمع، وفي مرحلة الدعوة قبل الدولة، ومع ذلك ارتفع بهم القرآن الكريم إلى فقه الواقع ومواكبة الأحداث وتحيين معطيات التدافع الدولي وصراع الكبار.

فيها تُحسم الصراعات الكونية الكبرى التي أخبر عنها صلى الله عليه وسلّم بين المسلمين واليهود وبين المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام والمسيح الدّجال، وفيها تُباد "ياجوج وماجوج".

إنها العاصمة الدينية الثالثة للمسلمين عبر امتداد الزمان والمكان كما قال صلى الله عليه وسلّم:" لا تُشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى."، إنها جنة الله تعالى في الأرض كما جاء في الحديث الشريف:"مَن أراد أن ينظر إلى بقعة من الجنّة فلينظر إلى بيت المقدس."، وإذا كانت "مكة" هي "أم القرى" وبداية علاقة الإنسان بالأرض، فإن القدس وهي أرض المحشر والمنشر التي يقوموا فيها النّاس لربّ العالمين فتمثّل نهاية علاقة الإنسان بالأرض، وهي بوابة السماء التي رُفع منها سيّدنا عيسى عليه السلام، ومنها عُرِج بنبيّنا صلى الله عليه وسلّم إلى سدرة المنتهى، إنها الأرض التي عرفها رسوله الله صلى الله عليه وسلّم قبل الصلاة والزكاة والصيام والحج، وقال عنها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي - عليه رحمة الله -:"إن فلسطين وديعة محمد صلى الله عليه وسلم عندنا، وأمانة عمر في ذمّتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منّا ونحن عصبة إن إذًا لخاسرون..". 

إنها "المعجزة" التي فتحت لنا آفاقا لمعراج الرّوح المتفجّرة من أسرار الإشارة القرآنية في قوله تعالى:" ..أسرى بعبده.." ولم يقل: بنبيّه أو رسوله، فوصفه بمقام العبودية حتى نكون معه شركاء في "المعجزة الإلهية"، ولنا فيها حظٌّ ونصيبٌ من عزائم الإسراء الرّوحي وإمكانية الإسراء الجسدي إلى فلسطين، وعزائم المعراج الرّوحي إلى الله تعالى، ويتناسب التشريع الإلهي للصلاة فيها مع هذا المعنى، فكلّ عبدٍ تماهى في مقام العبودية وخرج من حدود الآدمية الجسدية وحلّق بجمالية الرّوح يعيش مع "قدسية فلسطين" ومع مقام الأنس بالله تعالى.

إنّه مشهدُ العظمة الإلهية الذي ارتسم في عقائدنا وتصوّراتنا للقدرة الرّبانية اللاّمحدودة في عجائب اختراق الإنسان (جسدا وروحا) لحدود الزّمان والمكان، مما يلهمنا المعجزةَ في التضحية بالرّوح والجسد من أجل تحرير "فلسطين".

لقد كانت معجزةُ الإسراء والمعراج استباقا زمانيا لفتح فلسطين وتحرير المسجد الأقصى المبارك، ونحن نعيش مع هذه الذّكرى لنرقب أملا وفجرا وفق السنن الإلهية في جيل النّصر المنشود في ذلك، ويسألونك:".. متى هو؟ قل: عسى أن يكون قريبا."(الإسراء:51).

بقلم الأستاذ ناصر حمدادوش
لا تنس الصلاة والسلام على خير الأنام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

1تعليقات

تعليقك يساهم في تطوير المحتوى ويزيد من الفائدة بمشاركتنا بأفكارك واقتراحاتك , رأيك يهمنا فساهم بتعليقاتك معنا
::: يرجى عدم وضع روابط خارجية في التعليقات لضمان نشرها :::

  1. الإسراء هو السير ليلاً، والمعراج مفعال من العروج، وهي الآلة التي يصعد بها، والله أعلم بكيفيتها، والمقصود العروج به صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وأهل السنة والجماعة يقولون: إنه كان يقظة، وكان بروحه وجسده، وهذا هو الصحيح. وهذا الإسراء والمعراج معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن من حكمة الله تعالى أن جعل فيها الإسراء الذي يستدل به عملياً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لأن الله قادر على أن يعرج به من المسجد الحرام إلى السماء، لكن لو عرج به إلى السماء، وجاء الرسول في الصباح يقول: عرج بي إلى السماء، لقال المشركون: هذا مثل كقولك إنه ينزل عليك ملك! أي: أن هذا أمر غيبي لا يمكن أن نستدل به على صدق ما تقول، لكن من حكمة الله أن جعل الإسراء إلى بيت المقدس.

    اقرأ المزيد في إسلام أون لاين :
    https://islamonline.net/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%AD%D8%AF%D9%8A%D8%AB-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D8%AC/

    ردحذف