حقوق الأولاد
إنَّ الحمد لله، نَحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفُسِنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهْدِه الله فلا مضلَّ لهُ ومن يُضْلِل الله فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إِلَه إلاَّ الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 - 71].
أمَّا بعد:
فالولد نعمةٌ من نِعم الله على عبادِه، ولا يقدر هذه النعمة حقَّ قدرها إلاَّ مَن فقدَها، فتجِده يبذُل الغاليَ والنَّفيس في بذْل الأسباب التي بِها يحصل الولد، ويركب الصَّعب والذَّلول ويُكْثِر السَّفر والتنقُّل بين الأطبَّاء علَّه يُرْزَق بولد، وقد رغَّب الشَّارع في طلب الولد؛ فعن معقل بن يسار قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى الله عليْه وسلَّم فقال: إنِّي أصبتُ امرأةً ذاتَ حسبٍ وجَمال، وإنَّها لا تلِد، أفأتزوَّجُها؟ قال: ((لا)) ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثةَ، فقال: ((تزوَّجوا الودود الولود؛ فإنِّي مُكاثر بكم الأمم))؛ رواه أبو داود (2050) بإسناد حسن.
وقدْ شرع الله في حقِّ الولد ما يكفُل نشْأَتَه سويًّا في ما يتعلَّق بدينِه ودُنياه، بل حثَّ على اختِيار الزَّوجة الصَّالحة قبل حُصول الولد؛ لأنَّها موطن الحرث ومحضن التربية.
فمن حقِّ الولَد على والِدِه: اختِيار الاسم الحسن، وأفضله ما يدلُّ على سبب وجود الولَد في الدُّنيا وهي عبوديَّته لله؛ فعن ابن عمر قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((إنَّ أحبَّ أسمائِكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن))؛ رواه مسلم (2132)، ومن الخطأ الذي يقع فيه البعضُ اختيارُه اسمًا للمولود لا يناسب؛ إمَّا لغرابته أو لِما يَحويه من معانٍ تدلُّ على عدَم الخير أو الغلظة أو العناء أو غير ذلك من المعاني المكروهة للنُّفوس، فالأسماء لها أثرٌ على المسمَّى؛ فعن سعيد بن المسيَّب: أنَّ جدَّه حَزْنًا قدِم على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ((ما اسمُك؟)) قال: اسمي حَزْنٌ، قال: ((بل أنت سهل)) قال: ما أنا بمغيِّر اسمًا سمَّانيه أبي، قال ابن المسيب: فما زالتْ فينا الحزونة بعد؛ رواه البخاري (6193).
وممَّا يُنْهى عنْه: الأسماء التي فيها تزْكية، فقد كان النَّبيُّ يغيِّر الأسماء التي توحي بِهذه المعاني؛ فعن أبِي هُريرة: "أنَّ زيْنب كان اسمها برَّة، فقيل: تزكي نفسها، فسمَّاها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم زينب"؛ رواه البخاري (6192)، ومسلم (2141).
وما اشتهر عند العامَّة: أنَّه لا بدَّ من إراقة دمٍ عند تغْيير الاسم، فلا أصلَ له؛ فقد غيَّر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أسماء بعض أصحابِه، ولم يأمر أحدًا بذبْح شاة، ولو كان الدمُ واجبًا أو مستحبًّا لبيَّنه النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
البعض يَختار لولده اسمًا غيْر مناسب إرضاءً لغيْره، لكن تكون التَّبعة على الولد ويتأذَّى بِهذا الاسْم، صغيرًا أو كبيرًا، فلا تُطلب سعادةُ أحد وإرضاؤه على تعاسة غيره.
البعض يُعْجَب بأحد الأحياء؛ إمَّا لعِلمه أو عمله أو منصبِه أو غير ذلك من صفات الكمال، فيختار اسم ولده على اسم هذا الشَّخص، فتتبدَّل الأحوال ويندم على ذلك، فالاعتدال في حبِّ الأحياء مطلبٌ شرْعي، فمن مقولة السَّلف الذين هم خيْر هذه الأمَّة، أبرُّها قلوبًا، وأعمقُها علمًا، وأقلُّها تكلُّفًا، من مقولتهم: إنْ كنتُم لا بدَّ مُقْتَدين فاقتدوا بالميِّت؛ فإنَّ الحيَّ لا يؤمن عليه الفِتْنة، فأحبِبْ حبيبَك هَوْنًا ما عسى أن يكون بغيضَك يومًا ما، وأبغض بغيضَك هوْنًا ما عسى أن يكون حبيبَك يومًا ما.
إخوتي:
التَّسمية حقٌّ للأب، قال ابن القيِّم "تحفة المودود" (ص: 85): "التَّسمية حقٌّ للأب لا للأمِّ، هذا ممَّا لا نِزاع فيه بين الناس، وأنَّ الأبوين إذا تنازعا في تسمية الولد فهي للأب، والأحاديث المتقدِّمة كلها تدل على هذا". اهـ.
لكن من حُسْن المعاشرة إشْراك الأمِّ في التَّسمية، أو ترْك اختِيار اسم الولد لها أحيانًا.
ومن حقوق الولَد المستحبَّة على أبيه العقيقة؛ لقوله صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم في حديث سمُرة بن جندب: ((كلُّ غُلام مرتَهنٌ بِعقيقتِه تُذْبَح عنْه يوم سابعِه، ويُحلق رأسه ويسمَّى))؛ حديث صحيح رواه أحمد (19579) وغيرُه، لكن هذا على سبيل النَّدْب لا على سبيلِ الوجوب، فمَن لَم يعقَّ عن ولدِه ترَك الكمال؛ لكنَّه غير آثم.
فعن عمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جدِّه رضي اللهُ عنْه قال: سُئِل رسولُ الله صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم عن العقيقة، فقال: ((لا أحبُّ العقوق، ومَن وُلِدَ له مولود فأحبَّ أن ينسك عنْه فليفعل، عن الغلام شاتان مكافِئتان وعن الجارية شاة))؛ رواه أحمد (6674) وغيرُه بإسناد حسن، فردَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم الأمرَ إلى محبَّة الوالِد وليس هذا من شأن الواجبات، فهِي مستحبَّة في حقِّ الأب؛ لأنَّه هو المخاطب بها، فإنْ لَم يكُن موجودًا فتُشْرع في حقِّ الأم أو الولي، فإن لم يُعَقَّ عن الولد حتَّى كبر عقَّ عن نفسِه؛ لأنَّها مشروعة عنْه، ولأنَّه مرتهن بها، فينبغي أن يشرع له فكاكُ نفسِه، وروي أنَّ النبي صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم عق عن نفسه بعد النبوَّة، ولا يصحُّ، قال الحافظ في "الفتح" (9/595): "الحديث الذي ورد: أنَّ النبي صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم عقَّ عن نفسه بعد النبوَّة لا يثبت". اهـ.
الوارد عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم العقيقة بالغنَم، لكنَّ جُمهور أهل العلم على جواز العقيقة بالإِبِل والبقَر، وفعَلَه بعضُ الصَّحابة - رضي الله عنهم -فعن قتادة "أنَّ أنسَ بن مالك رضي اللهُ عنْه كان يعقُّ عن بنيه الجزور"؛ رواه الطبراني في الكبير (1/244) ورواتُه ثقات، فذِكْر الغنم يدلُّ على الأفضليَّة لا عدم إجزاءِ غيْرِها، والله أعلم.
يَجوز للجازر كسْر عظام العقيقة من غيْر كراهة، قال ابن حزْم: "لَم يصحَّ في المنْع من كسْر عظامِها شيء". اهـ. لكن إن فصلها أعضاءً فحسن؛ لفعل الصحابة رضي الله عنهم قال جابر في العقيقة: يقطَّع أعضاءً، ويُطْبَخ بِماء وملح، ثُمَّ يُبْعَث به إلى الجيران، فيقال هذه عقيقة فلان؛ رواه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال (48) بإسناد حسن.
وليس في صفة توْزيع العقيقة نصٌّ خاصٌّ، فينظر الوالدُ في الأصْلح: إمَّا أن يطْبخها ويوزِّعَها مطبوخةً هديَّة وصدقة، أو يدْعو عليْها مَن أحبَّ من الأقارب والمحتاجين، أو يوزِّعها لحمًا هدية وصدقة.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ ﴾ [القصص: 68]، والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّد الذي بيَّن لنا ما يرضاه ربُّنا لنا ويَختاره.
وبعد:
يتعلَّق باليوم السَّابع من الولادة سُنَن:
الأولى: العقيقة؛ لحديث سمرة بن جندب رضي اللهُ عنْه ((كلُّ غلامٍ مرْتَهن بعقيقتِه، تُذبح عنه يوم سابعِه، ويحلق رأسه ويسمَّى))، وسواء كان حيًّا أم مات قبل ذلك؛ لعموم الحديث، فإن فات السَّابع، ذبحت بعد ذلك من غير حدٍّ بوقْت؛ لضعف الوارد في ذلك.
الثانية: حلق رأسه؛ لحديث سمرة بن جندب رضي اللهُ عنْه وعن سلمان بن عامرٍ الضَّبِّي رضي اللهُ عنْه قال: سمعت رسولَ الله صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم يقول: ((مع الغلام عقيقةٌ، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنْه الأذى))؛ رواه البخاري (5472)، والظاهر أنَّ الحلق مختص بالذَّكر دون الأنثى، فالغلام يطلق على الذَّكَر دون الأنثى، والأصْل المنْع من حلْق رأْس الأنثى دون الذَّكَر، وورد التعبُّد بِحلْق رأْس الذَّكر في النسك دون الأنثى.
الثالثة: التصدق بوزن الشَّعر فضة؛ فعن أبي رافع رضي اللهُ عنْه قال: "لمَّا ولدت فاطمة رضي الله عنه حسنًا رضِي اللهُ عنْه قالتْ: ألا أعقُّ عن ابني بدم؟ قال: لا، ولكن احلِقي رأْسَه وتصدَّقي بوزْن شعْرِه من فضَّة على المساكين والأوْفاض، ففعلت ذلك، قال: فلمَّا ولدتْ حسينًا فعلت مثل ذلك"؛ رواه أحمد (26642) بإسناد حسن.
الرابعة: التسمية؛ لحديث سمرة بن جندب رضي اللهُ عنْه أو التسمية قبل السَّابع فالكل سنَّة، فعن أنس بن مالك رضي اللهُ عنْه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم: ((وُلِد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم))؛ رواه مسلم (2315)، وإن أخَّره عن السَّابع فالأمر في ذلك واسع، فالمقصد من التَّسمية تعريف المسمَّى.
ولا يشترط ترتيب هذه الأشياء؛ لأنَّ الواو في قوله صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم: ((تذبح عنه يوم سابعه ويحلق رأسه ويسمَّى)) لا تدلُّ على التَّرتيب.
أمَّا الأذان في أذُن المولود اليُمْنى والإقامة في أذُنه اليسرى، فقد رُوِيَتْ أحاديث لا تصحُّ؛ فعن أبي رافع رضي اللهُ عنْه قال: "رأيتُ رسول الله صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم أذَّن في أذُن الحسن بن علي رضي اللهُ عنْه حين ولدته فاطمة رضي اللهُ عنْها بالصلاة "؛ رواه أحمد (26645) وغيرُه وإسناده ضعيف، وعن حسين رضي اللهُ عنْه قال: قال رسول الله صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم: ((مَن وُلِد له فأذَّن في أذُنه اليمنى وأقام في أذُنه اليسرى، لم تضرَّه أم الصبيان))؛ رواه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (623)، وإسنادُه ضعيف جدًّا، فإذا كانت الأحاديث الواردة في ذلك لا تصحُّ، فلا يشرع الأذانُ والإقامة حين الولادة، والله أعلم.
يَجب للولَد على أبيه النَّفقة من ملبسٍ ومأْكل ومشْرب، على قدْر وسْعِ الأب وطاقته؛ ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7].
ومن أعظم الذُّنوب الإخْلال بالنَّفقة الواجبة مع القدْرة؛ فعن عبدالله بن عمرو قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليْه وسلَّم: ((كفى بالمرْءِ إثْمًا أن يضيِّع مَن يقوت))؛ رواه مسلم (996) وأبو داود (1692) واللفظ له.
وبهذا يتبيَّن خطأ بعض الآباء حينما يهجُر زوجته لخلاف بينهما، ويَجعل الأولاد ضحيَّة لهذا الخِلاف فيمنعُهم حقوقَهم الواجبة، من رؤيتِهم له والشُّعور بِحنان الأبوَّة، وحسن التَّوجيه والتَّربية والنَّفقة الواجبة، وربَّما أخذوا من الزَّكاة، وأبوهم يُخْرِج زكاته للنَّاس، ﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [النجم: 38].
وممَّا يجب على الأب تنشِئة الأولاد على الصَّلاة وهم صغار؛ ليعتادوها عند الكبر، ومما يؤسف له أنَّ الكثير منَّا مقصِّر في هذا الباب، لا سيَّما صلاة الفجر، ومن ثمَّ ينشأ الأوْلاد على تثاقُل الصلاة واعتبارها عبئًا عليْهم؛ لأنَّهم لم يعتادوها وهم صغار.
أخي الأب:
تذكَّر أنَّ من أعظم ما استرعاك الله عليْه الولدَ، فاللهَ الله في هذه الأمانة تعاهَدْها بِما يُصْلِحها في دينها ودنياها، وإيَّاك والتَّفريطَ، فتندم وتَخسر آخِرَتَك، عن معقل بن يسار سمعتُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: ((ما من عبدٍ استرْعاه الله رعيَّة فلم يحطْها بنصيحةٍ إلاَّ لم يجد رائحة الجنَّة))؛ رواه البخاري (715)، ومسلم (142).
وكذلك خسارة الدُّنيا، فيندر أن تَجد أبًا مفرِّطًا لَم يحط أولادَه بالتربية والتَّوجيه فينتفع بِهم في حياته، بل في الغالب يكونون وبالاً عليْه؛ قال ابن القيم في "تحفة المودود" (ص: 229): "من أهمل تعليم ولده ما ينفعُه وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنَّما جاء فسادُهم من قِبَل الآباء وإهمالِهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننَه، فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفُسِهم ولَم ينفعوا آباءَهم كبارًا، كما عاتب بعضُهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت، إنَّك عققْتَني صغيرًا فعققتُك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا".
المصدر : http://www.alukah.net/sharia/0/5051/
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0تعليقات