أثر المرأة في بناء الرجال


إنّ المرأة تقوم بدور خطير في حياة كلِّ فرد، فإمّا أنْ تجعل منه عظيماً يُشيد النّاسُ بذكره وعظمته، وإمّا أن يكن خاملَ الذّكر لا يؤبه له!؟.

فعلى قدر تربية المرأة وعظمة أخلاقها يكون البناء في الرّجال! وما العظماءُ الخالِدُو الذّكر إلّا أبناء جليلات القدر! رفيعات المنزلة! كريمات المنبت!!. ذلك أنّ الزوجة والأُم شريكة لزوجها وولدها في كرامتها فإذا كان الزّوج أو الابن زعيماً فقد صارت لها الزعامة، وإذا أصبح أميراً فقد تقلّدت الإمارة، فالمرأة بزوجها وأمومتها قد ترتفع أحياناً إلى أعلى عليين! بل إلى ما لا يساميها فيه أعظم الرجال!! ومَن من العالَمين لا يُكْرِمُ مريمَ من أجل ابنها المسيح (ع)!؟ أو يكرم آمنة من أجل محمّدٍ (ص)!؟ وقُلْ مثل ذلك عن تلك الأُمّهات اللّواتي أنجبن الرّسلَ والأنبياء! والعلماء والقادة والمصلحين والزعماء المخلصين!! فكلهنّ كريمات مقدّسات ممجّدات بما خلفن من أبناءٍ وبنات!!!.
وما من عظيم مهما سمَى قدرُهُ إلا وهو ابن امرأةٍ شريفةٍ عظيمة!! وهو بحكم بنوتّته لها مجبولٌ ومأمورٌ بطاعتها وحبّها، وقد يكون ممن ترتجف الملوك من حضرتهم وتفزع النّاس من هيبتهم!!؟.
وليس بمنقص من قدر المرأة أن تكون كرامتها ومجدها وشهرتها مستمدة بالتّبع من كرامة زوجها أو ابنها، إذْ أنّ لها نصيباً من ذلك المجد!! فما من رجل متزوّج يمكن أن يرقى إلا ولزوجته نصيب فعّال فيما حقَّقَهُ!! وما من رجلٍ يمكن أن يفوز أو ينجح إلّا ولأُمّهِ النصيب الأكبر فيما وصل إليه، فهو ليس إلّا بضعة منها!! والفرع لا يمكن أن يكون أكرم من الأصل ولا يمكن أن يحقق لنفسه شيئاً من الحياة فضلاً عن الرقي والتطور إلّا عن سبيل ما يستمده من الأصل!!؟.
ولذلك فإنّ المطالع لسير العظماء يسترعى نظره إهتمام هؤلاء العظماء في إظهار فضل زوجاتهم عليهم، حتى ليقول بعضهم: إنّه مدين بكلِّ شيء لزوجته، أو لما ورثه عن أُمّهِ من صفات، وما زودته إيّاه من نصائح وتوجيهات!!!.

فالمرأة ليست بالشيء القليل القدر؛ فإنّ من وكّله الله بابتناء الكون وإنشاء الأُمم لا يكون قليل الشّأن، إلّا إنما هي دعامة الكون، لا يزال ناهضاً مكيناً ما نهضتْ، فإن هي وهنت دونه أو تخاذلتْ عنه تهاوت عمده وتصدّعت جوانبه!!؟.

في قرن وبعض القرن وثب المسلمون وثبة ملؤوا بها الأرض قوة وبأساً وحكمةً وعدلاً وعلماً، فراضوا الأُمم وهاضوا الممالك وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات أفريقيا وأطراف أوروبا!!. وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوبُ وتقلّب بها الألسنة بعد أن كانوا قبائل بدو لا نظام ولا علم ولا شريعة؟!! ففي أيّ المدارس دَرَجُوا!؟ ومِنْ أيّ المعاهد تخرّجوا؟!.

إنّما كانت خصائصهم وخيامهم ودورهم ومساجدهم معاهد ومدارس، وما شئت من مغارس حكمة وآداب وليَ أمرها أمهات صدق أقامهنّ الله على غرسه ونشئته، واستخلفهنّ على صنائعه وائتمنهنّ على بناة ملكه وحماة حقّه ودعاة خلقه، فكنّ أقوم خلفائه بواجبه! وأثبتهنّ على عهده! وأنهضهنّ بالفادح الشديد من أمره!!!.

لقد كان الله أبر بهؤلاء القوم من أن يخرجهم مخرجاً سيئاً أو ينبتهم منبتاً فاسداً، أو يضمهم إلى صدور واهية وقلوب سقيمة، ثم يكل إليهم أشرف مطالب الحياة ويوردهم أسمى مقاصدها!!. ولو فعل لكان قد كلّفهم شططاً وجشمهم مُحالاً؛ لأنّ الأُم من الأُمة بمثابة القلب من الجسد، فهي غذاء أرواحها، ومبعث عواطفها؛ فإن وهنتْ كان كلّ أولئك واهناً ضعيفاً!!.

ولقد قدمت الأُم العربية المسلمة أروع الأمثلة في التاريخ الإنساني، في الجهاد والتضحية وعظيم الصبر عند البلاء والمِحن، فتلك هي الخنساء وقد رفعها التاريخ وخلّد اسمها في صفحات الأمومة الغالية بما أخرجت على يديها من رجال أفذاذٍ وأبطالٍ صناديد!! فقدّمت أبناءَها الأربعة في معركة القادسية راضية النّفْسِ، قريرةَ العينِ، فكان ممّا أوصتْهُمْ به قولُها:

"يا بَنيَّ، إنّكم أسلمتُم طائعين، وهاجرتُم مختارين، والله الذي لا إله إلّا هو إنّكم لبنو رجلٍ واحدٍ، وإمرأةٍ واحدةٍ، ما هجّنْتُ حسبكُم، وما غيّرتُ نسبكُم!؟ واعلموا أنّ الدار الآخرة خيرٌ من الدار الفانية، اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكُم تفلحون!!! فإذا رأيتم الحربَ فقد شمرتْ عن ساقيها، وجللت ناراً على أوراقها، فيمِّموا وطيسَها وجالدوا رسيسها، تظفروا بالغُنم والكرامة، في دار الخلد والمقامة"!!!.
فلمّا كشرت الحربُ عن نابها تدافعوا إليها وتوقعوا عليها، وقدَّموا أرواحهم فداءً لنصرة دين الله وإعلاءً لكلمته، فكانوا عند ظنِّ أمّهم بهم حتى قُتِلُوا واحداً بعد واحد!!!.
ولمّا وافتْهَا الأخبارُ باستشهادِهم لم تزدْ على أن قالت: الحمدُ لله الذي شرّفني بقتلهم جميعاً، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته"!!!.

ولقد كان الرجل وما يجاوز رأي أُمّة ولا يستشعر العَنَاءَ عن مشورتها ونهج سبيلها مهما تطاول به العمر وأمعنتْ برأيه التجارب. وحديث عبدالله بن الزبير وأمّهِ أسماء بنت أبي بكر آية بالغة ودليل كفيل بما نقول!!!.

ذلك أنّ عبدالله لبث على إمرة المؤمنين، ودانت له العراق والحجاز واليمن ثماني سنين، ثمّ أخذ عبد الملك بن مروان يُقارعه فانتقص منه العراق، ورماه بعد ذلك بالحجّاج بن يوسف، فأخذ يطوب بلاده عنه حتى انتهى إلى مكة فطوّقها ونصب المجانيق على الكعبة، وأهوى بالحجارة عليها وفي الكعبة يومئذٍ أسماء بنت أبي بكر. وكان عبدالله يُقاتل جُند الحجّاج مسنداً ظهره إلى الكعبة فيعيث فيهم، ويُروِّع أبطالهم، وليس حوله إلّا القوم الأقلّون عدداً، والحجاج بين ذلك كله يُرسل إليه يُمنيه الخير ويعده بالإمارة في ظل بني أُميّة لو أغمد سيفه وبسط للبيعة يده!!؟.

دخل عبدالله إثر ذلك على أُمّه فقال: يا أمّاه، خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلّا اليسير ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من النّهار، وقد أعطاني القوم ما أردتُ من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: الله الله يا بني – إن كنتَ تعلم أنك على حقِّ تدعو إليه فامشِ عليه، ولا تُمكّن من رقبتِكَ غلمانَ بني أميّة فيلعبوا بكَ!؟ وإن كنتَ أردت الدنيا فبئس العبد أنتَ. أهلكتَ نفسك ومَن معك، وإن قلتَ إنّي كنتُ على حقٍّ فلمّا وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل إلّا حرراً ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزّبير، والله لَضَرْبةٌ بالسّيف في عزٍّ أحبُّ إليَّ من ضربةِ السوط في ذُلٍّ!!!. فقال: يا أمّاه، أخافُ إن قتلني أهل الشام أن يُمثِّلا بي ويصلبوني؟! قالت: يا بُني! إنّ الشاة لا يضرُّها السّلخُ بعد الذّبح، فامْضِ على بصيرتِكَ، واستعِنْ بالله، فقبَّل رأسها، وقال لها: هذا والله رأيٌ، والذي قمتُ به داعياً إلى الله ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عزّ وجلّ أن تُهتَكَ محارِمُهُ، ولكنّني أحببتُ أن أطّلعَ على رأيكِ، فيزيدني قوّة وبصيرة مع قوتي وبصيرتي. ثمّ دنا من أمّه وقبّل يدها، فعانقته وقبّلتْهُ، ثمّ خرج وهو أثبتُ عزيمةً على الأخذ بالحقّ، والانتصار له!!!. وقالت أمّه بعد خروجه: اللّهمّ إني سلمتُ فيه لأمرك، ورضيتُ فيه لأمرك، ورضيتُ فيه بما قضيتَ، فأثبني في عبدالله ثوابَ الصابرين الشاكرين!!!. ثمّ قال لأصحابه: احملُوا على بركةِ الله، وليُشْغِل كلٌّ منكم رجلاً، ولا يلهينكم السؤال عني فإني على الرّعيل الأوّل. ثمّ حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، وهنالك رماه رجل من أهل الشام بحجر فأصاب وجهه فأخذته من رعدة، فدخل شعباً من شعاب مكة يستدمي، فتكاثر عليه أعداؤه عند ذلك، فقتلوه، وصلبَه الحجاج فأقام جثمانه على الجذع زماناً طويلةً، حتى إذا أمر عبدالملك بإنزاله أخذتْهُ أُمّه فغسلتْهُ بعد أن ذهبوا برأسه، وذهب البلى بأوصالهِ!؟ ثمّ كفّنته وصلّت عليه ودفنتْهُ!.

وذلك أمرُ ابن الزّبير ومقامه من أُمّهِ وعكوفه على رأيها ونزوله عند مشورتها حتى آخر ساعة من ساعاته وقد طعنَ يومئذ في السبعين!! وما له لا يكون كذلك؟ وهل ترى فيما رأيت خطلاً في الرأي أو زَلَلاً في القصد أو حياداً عن النّهج، أو عثرة في الواجب؟ وهل أعانت امرأة ولدها على التضحية في نصرة الحقّ وبذل النفس في حومة الشّرف بمثل ما أعانت أسماء ولدَها؟!!!.

اللّهمّ إنّ تلك سر عظمة القوم! وسبيل نهضتم! ومبعث قوّتهم! وإليه مرجع استبسالهم واستماتتهم!.

وبعدُ فقدْ علمتِ ممّا سلف من القول أنّ المرأة المسلمة اجتمع لها من وسائل التربية ومجالات العمل ما لم يجتمع لأخرى ممّن سواها من إقرار بحقّها، وإمعانٍ في احترامها ومماشاة في الرأي والعمل لها إلى غير مدى ولا غاية في ذلك كله.

كلّ أولئك ما علمت من رجاحة في العقل، وسماحة في الرأي واستمكان من الفضيلة، وبلوغ إلى الغاية القصوى من خلال الدِّين وفرط اليقين، ممّا جعلهنّ أعرف خلق الله بتكوين الرّجال!! والتأثير فيهم! والنفّاذ إلى قلوبهم! وتثبيت دعائم الخُلُق العظيم بين جوانحهم! وفي مسارب دمائهم!!!.
ومن أجل ذلك كان أبناء النابهات الممتازات من النساء أنبل وأفضل وأمثل من أبناء النّابهين الممتازين من الرّجال، حتى لا تكاد تقف على عظيم ممن راضوا شماس الدّهر، وذلّت لهم نواحي الحادثات إلا وهو ينزع بعرقه وخُلُقِهِ إلى أمٍّ عظيمةٍ! هؤلاء هنّ الأُمّهات اللاتي انبلج عنهنّ فجرُ الإسلام!! وسمتْ بهنّ عظمتُهُ! وعظمتْ بقوتهنّ قوته! وعنهن وحدهن ذاعت مكارِمُهُ ورسمتْ قوائمُهُ!!!.
وهؤلاء هنّ خير أساتذة أنجبتهم الحياة فأنجبن خير الأبناء، فإن كان ممّا يعيب الرجل في عصرنا الحاضر أن يُقال عنه: إنّه تربية أُمِّهِ!!!. فقد كان ذلك في عصور الإسلام الزّاهية وأيامه الخالية مهبط الشرف الحرّ والمجد الرفيع والعزّ المكين!!. فلا شكّ أنّ للمرأة خواص تجعل أثرها في تشييد صرح الحياة، وتزيينه أقوى أثراً من الرّجال!!!.

فبحكم وظيفتها الطبيعية في تكوّن الجنين هي التي تبرز للحياة للإنسان الحيّ كأنّما تقده من كيانها، فالمرأة هي المبدأ الظّاهر المباشر للحياة الإنسانية، قد يكون هذا المعنى هو الذي أذهب ببعض الأجيال السالفة إلى عبادة النساء، وتأنيث الآلهة!؟!. وطبيعي أن يفيض قلب المرأة بالحبّ والحنان لهذا العالم الإنساني الذي تكاد تشعر بفطرتها أنّه ثمرة من ثمراتها، وأنّ حياته مستمدة من حياتها!!!.

فالمرأة هي المنبع الفيّاض لما في هذه الحياة الإنسانية من حب هو أساس النّظام والعدل والرحمة والسّعادة. تلك قيمة المرأة في الحياة كأم تُنجب الأطفال والأولاد والأبناء، وتُورِّثُ الفضائلَ من جيلٍ إلى جيل، وتحفظ سلسلة الإنسانية كاملةً!! والحلقات متصلةَ الأجزاء!! تضمن للجنس البشري خُلُوداً على كرّ الدّهر ومرّ الأيّام! وبقاء ما أراد الله له البقاء!!!.

فهذه صفحات مشرقة من تاريخ المسلمات المؤمنات الطّاهرات وأثرهنّ في صنع الرّجال!!!...


المصدر: كتاب شخصية المرأة المسلمة في ضوء القرآن والسنّة
لا تنس الصلاة والسلام على خير الأنام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم